خطبة للعلامة السعدي في الحث على الصبر
الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب ،وجعل لهم العواقب الجميلة في هذه الدنيا ويوم المآب ،وأشهد أن لا إله إلا الله،وحده لا شريك له ،الرحيم التواب ،الكريم الودود الوهاب ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،الذي أنزل عليه الحكمة وفضل الخطاب ،اللهم صلّ على محمد وآله وأصحابه صفوة الصفوة ولبّ اللباب وسلّم تسليمًا .
أما بعد : أيها الناس ،اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن الصبر من الإيمان، بمنزلة الرأس من الجثمان ،فمن لا صبر له فليس له يقين ولا إيمان؛وقد أمر الله بالاستعانة بالصبر والصلاة على جميع الأمور ،وأخبر أن الصابرين لهم الدرجات العالية والخير والأجور ،فقال مخبراً عن دار أهل القرار: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) )
فإن سألتم عن حقيقة الصبر ، فإنه حبس النفس وإلزامها ما يشق عليها ابتغاء وجه الله، وتمرينها على الطاعة وترك المحارم ، وعلى الأقدار المؤلمة رضي بقدر الله .فمَن عرف ما في طاعة الله من الخير والسعادة هان عليه الصبر والمداومة عليه. وما في معصية الله من الضرر والشقاء ،سهل عليه إرغام النفس والإقلاع عنها .
ومَن علم أن الله عزيز حكيم ،وأن المصائب بتقدير الرؤوف الرحيم،أذعن للرضا ورضي الله عنه وهدى الله قلبه للإيمان والتسليم .
فيا من انتابته الأمراض وتنوعت عليه الأوصاب ،أذكر ما جرى على أيوب كيف أثنى الله عليه بالصبر وحصول الزلفى حيث قال ) : إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (44)
و يا مَن فَقَد سمعه أو أَخَذ الله عينيه :أما علمت أن الله لا يرضى بعوض سوى الجنة لمن صبر حين يأخذ حبيبتيه ؟
ويا من فجع بأحبته وقرة عينه وأولاده وأخدانه ،أما علمت أن مَن حمد واسترجع بَنَى الله له بيت الحمد في دار كرامته ، وكان زيادة في إيمانه وثقلًا في ميزانه ،وأن مَن مات له ثلاثة من الولد أو اثنان أو واحد فصبر واحتسب كان حجابًا له من النار ورفعةً له في دار القرار ؟أما سمعتَ أن من صبر على الفقر والجوع والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات ،فإنّ له البشارة بالهداية والرحمة من ربه والثناء والصلوات ؟
ويا مَن أصيب بآلام أو جروح أو أمراض تعتري بدنه وتغشاه،أما سمعت قوله-صلى الله عليه وسلم- :
(لا يصيب المؤمن من همٍّ ولا غمٍّ ولا أذىً حتى الشوكة يشاكّها إلا كفّر الله بهت من خطاياه ) .
( عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير :إن أصابته سرّاء كر فكان خيرًا له ،وإن أصابته ضرّاء صبَرَ فكان خيرًا له؛وليس ذلك إلا للمؤمن )
رواه مسلم في صحيحه .
فعليكم بالصبر على ما أصابكم والاحتساب ،فإن ذلك يخفف المصيبة ويجزل لكم عند ربكم الثواب؛ألا وإن الجزع يزيد في المصيبة ويحبط الأجر ويوجب العقاب؛ فيا سعادة مَن رضي بالله ربًا ،فتمشى مع أقداره ،بطمأنينة قلب وسكون ،وعلم أن الله أرحم به من والديه فلجأ إليه وأنزل به جميع الحوائج والشؤون ( و َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ....)
(155) إلى آخر الآيات .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
المصدر :
كتــاب اللآليء والدرر السعدية
للعلّامة : عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله